قصص

رسالة فنيّة: إسهامات الفنانات العربيات الرائدات في الفن العربي الحديث

نشرت
24 سبتمبر 2024

حققت الفنانات العربيات في القرن العشرين حضورًا لا يُمحى في ساحة الفن نظرًا لإسهاماتهن الراسخة والملموسة في تاريخ الفن العربي الحديث.

حتى سنوات قليلة مضت، كانت أعمال الفنانات العربيات في القرن العشرين مُهملة إلى حد كبير مقارنة بأعمال نظرائهن من الرجال. وكما هي الحال مع الفنانات في أماكن أخرى من العالم، قد تُشتهر فنانة ما بمجموعة معينة من الأعمال الفنية أو المعارض الاستعادية، ولكن نادرًا ما يتم وضع أعمال الفنانين العرب الذكور جنبًا إلى جنب مع أعمال الفنانات العربيات والاحتفاء بالإسهامات التي قدمها كل منهما في تاريخ الفن العربي الحديث بشكل متساوي.

 

في عام 1993، أقيم معرض غير مسبوق بعنوان "قوى التغيير: فنانون من العالم العربي" تحت إشراف المؤرخة الفنية الفلسطينية سلوى مقدادي، التي تضطلع الآن بدور منسقة معارض فنيّة مستقلّة وأستاذة مساعدة في قسم تاريخ الفن في جامعة نيويورك أبوظبي. يمثل هذا الحدث أولى المعارض التي تهدف إلى تعزيز الوعي بالدور المهم الذي قامت به الفنانات العربيات المعاصرات على ساحة الفن.

 

افتُتح معرض مقدادي في "المتحف الوطني للمرأة في الفنون" بواشنطن العاصمة، وانتقل بعد ذلك إلى شيكاغو وأتلانتا وميامي وشمال كاليفورنيا، ويُعد أحد أول المعارض الشاملة للفنانات العربيات المعاصرات في القرن العشرين. بدأ اهتمام مقدادي بأعمال الفنانات التشكيليات العربيات المعاصرات عندما كانت طالبة في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث فتنت بأعمال فنانات مثل سلوى روضة شقير وجمانة الحسيني، وتحديدًا الكيفية التي تفاعلن بها مع التجريدية.

 

بعد هجرتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تلقت مقدادي طلبات عديدة لإقامة معارض تُركز على أشكال الفنون التي ارتبطت تقليديًا بالمرأة، مثل صناعة الأزياء أو التطريز، لكنها أرادت، بدلًا من ذلك، عرض أعمال الفنانات الرائدات ذوات الرؤى الطليعية من القرن العشرين اللاتي استكشفن تعبيرات فنية فريدة في سياق المدرسة التجريدية وموضوعات الحياة اليومية من وجهة نظر المرأة. تحقيقًا لذلك، ضم معرض "قوى التغيير: فنانون من العالم العربي" 160 عمل فني لـ70 فنان من 15 دولة شملت الجزائر والبحرين ومصر والعراق والأردن والكويت ولبنان والمغرب وسلطنة عمان، وغزة والضفة الغربية الفلسطينية والمملكة العربية السعودية وسوريا والسودان وتونس والإمارات العربية المتحدة. احتفى المعرض بتنوع الثقافة العربية من خلال عرض أعمال الفنانات العربيات، كما صدر كتاب عن المعرض لمقدادي بمشاركة الفنانة اللبنانية إيتيل عدنان.

 

أدركت مقدادي أن هناك ندرة عامة في المعلومات عن الفنانين العرب، وتحديدًا الفنانات العربيات. وبهدف تعزيز المعلومات المتاحة والمعرفة بالفنانات العربيات، تعاونت مقدادي مع باحثين وقيمين فنيين آخرين لتأسيس المجلس الدولي للمرأة في الفنون (ICWA)، وهي منظمة غير ربحية في لافاييت، كاليفورنيا، اتخذت من منزل مقدادي مقر لها في الفترة ما بين عام 1989 إلى عام 2006. وكان الهدف الوحيد من هذا المشروع هو إنشاء قاعدة بيانات تضم كم وفير من المعلومات عن الفنانات العربيات والتي يمكن مشاركتها بسهولة مع الدارسين في جميع أنحاء العالم.

 

وفقًا للمؤرخة الفنية العراقية الأمريكية ندى شبوط، تختلف مسيرة المرأة العربية في الفن في القرن العشرين باختلاف المنطقة والبلد العربي الذي ينظر إليه من يدرس هذا التاريخ. تؤكد شبوط: "تعتمد الكثير من الأمور على الوضع في كل بلد من حيث تمكين أو تشجيع المرأة على العمل في مجال الفنون... ولكن بشكل عام، كان عدد الفنانات - أو الفنون النسائية - اللاتي سمعنا عنهن حتى النصف الثاني من القرن العشرين قليل". وتقدم شبوط أمثلة عن عدد من النساء اللاتي حصلن على منح دراسية من حكوماتهن للدراسة في الخارج، من بينهن مديحة عمر، أول امرأة عراقية تحصل على منحة دراسية من الحكومة لدراسة الفن في لندن في ثلاثينيات القرن العشرين.

 

تقول شبوط: "لطالما كان هناك فنانات يمارسن الفن ويقمن المعارض في جميع أنحاء العالم، لكن ربما أصبح الأمر أكثر صعوبة إلى حدٍ ما في منتصف القرن العشرين مع كل التحولات التي شهدها العالم والثورات التي مر بها العراق ومصر، والتي دفعت النساء في الوقت نفسه إلى ممارسة الفن".

 

وفي هذا السياق، أشارت شبوط  إلى الفنانة الفلسطينية سامية حلبي، المولودة في عام 1936 في القدس، والتي عُرفت بدورها الريادي في الرسم التجريدي. في عام 1948، فرت سامية حلبي مع عائلتها من مسكنهم في مدينة يافا الساحلية إثر تأسيس دولة إسرائيل، فانتقلوا أولاً إلى لبنان ثم استقروا في سينسيناتي بولاية أوهايو الأمريكية. وتقول شبوط إن نزوح حلبي دفعها بالصدفة إلى أن تصبح صوتًا فنيًا فلسطينيًا بارزًا في الشتات ومصدر إلهام للفنانين العرب في أوطانهم وفي الغربة. وتضيف شبوط تعليقًا على عنصر العاطفة الذي لربما استحضرته الفنانات في أعمالهن ومنظورهن للتغيرات التي شهدها العالم من حولهن: "لقد قامت الفنانات بدور مهم في تطوير المشهد الفني في العالم العربي".

 

ما يهم هنا، عند تأمل مسيرة الفنانات الرائدات الأخريات مثل اللبنانية هوغيت كالان (1931-2019)، ومنى السعودي (1945-2022) من الأردن، والفنانة الألمانية المصرية سوزان هيفونا (مواليد عام 1962)، هو الأخذ بعين الاعتبار سياق الحياة في عصرهن، والكيفية التي دفعت بها أعمالهن الفنية الحدود الجمالية لتحطم طوق المحظورات، ليس فقط من الناحية البصرية ولكن أيضًا على الصعيد الاجتماعي. وقد قدمت أعمالهن، في كثير من الأحيان، ترجمة فنية للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي حدثت في ذلك الوقت على المستوى الشخصي للنساء وكذلك على المستوى السياسي للأمم والشعوب، مثلما يُلاحظ في الأعمال الأكثر حسية للفنانة هوغيت والأشكال النحتية الرشيقة للفنانة منى السعودي. وهنالك أيضًا أعمال هيفونا متعددة الوسائط التي تجمع بين التجريدية وملامح الفن الإسلامي وتستكشف العلاقة بين المكان والهوية من خلال الأشكال التجريدية حيث تستقي الفنانة إلهامها، إلى حدٍ كبير، من نقوش وقوام المشربية، وهو شكل من أشكال الفن المعماري الإسلامي يتألف من نوافذ شبكية ذات تفاصيل دقيقة تعمل على إدخال وتصفية ضوء الشمس.

 

وهكذا تؤكد شبوط على وجود علاقة بين العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في قبول المرأة كفنانة في جميع أنحاء العالم العربي. وتوضّح أنه إذا كان البلد متطور ثقافيًا، مع تمتعه ببنية تحتية قوية لدعم الفنون، فإن ذلك يعني زيادة احتمالات حصول النساء الراغبات في دراسة الفن على دعم من الدولة في ذلك الوقت.

 

كما أضافت أنه "هناك أيضًا الإرث الاستعماري. ففي بعض الأماكن، كانت هناك محظورات تتعلق بالفن، بالنسبة للنساء والرجال على حدٍ سواء". ومن هذا المنطلق، تشير شبوط إلى عدد من الأسئلة التي ربما كانت تُطرح مثل: ما الذي يُمكن اعتباره فنًا إسلاميًا وما الذي لا يُعد كذلك؟ هل يتبع الفنان أسلوب استشراقي؟ ماذا سيفعل الفنان بشهادة في الفن؟ كيف يمكن للفنان أن يبني حياته ويؤسس عائلة؟ هذه كلها أسئلة أساسية ربما طُرحت على كل من النساء والرجال بدرجات متفاوتة اعتمادًا على تطور البنية التحتية للفنون في المدينة أو الدولة المعنية.

 

رغم قطع أشواط كبيرة في توثيق تاريخ الفنانات العربيات، إلا أنه لا يزال هناك الكثير الذي ينبغي القيام به. وفي عام 2020، أخذ سلطان القاسمي، جامع الأعمال الفنية والمحاضر الإماراتي، على عاتقه هذه المهمة من خلال إقامة معرض بعنوان "قرن من التحولات: أبرز الأحداث من مؤسسة بارجيل للفنون، الفصل الثاني". ضم الحدث أعمالًا لعدد متساوي من فناني وفنانات العالم العربي بهدف تحقيق المساواة الجنسانية، وقدّم عرضًا غير مسبوق لأعمال الفنانات اللواتي صورن الحياة المنزلية وموضوعات تُجسّد مشاعر التعاطف في خضم لحظات الصراع والتحديات.

 

وفي مقابلة له مع صحيفة "ذا ناشيونال"، قال القاسمي: "نساء يصوّرن النساء...أحد الأسباب التي تُحتم الاحتفاء بأعمال الفنانات هو أنهن يعرفن النساء. . . ويستطعن تصوير هذه المشاهد التي يلمن بها". وفي هذا السياق، أشار إلى الفنانة التشكيلية السعودية الرائدة، صفية بن زقر (1940-2024)، التي صوّرت في فنها مشاهد مستمدة من حفلات الزفاف والحناء النسائية والتي كان بإمكانها حضورها على عكس الرجال الذين لا يُسمح لهم بذلك. ومن خلال أعين فنانات بداية ومنتصف القرن العشرين، يمكننا اكتساب فهم أفضل لحياة النساء في تلك الفترة الزمنية.

 

كانت مقدادي المنسقة الفنية للفصل الأول من معرض "قرن من التحولات" الذي أُقيم في عام 2018، وقد ذكرت في حديث لها مع "ذا ناشونال" أنه على الرغم من أن عرض القاسمي تم تنظيمه على نحوٍ رائع، "إلا أنه لا يعكس الواقع الذي هو أكثر تعقيدًا من مسألة التمثيل المتساوي". وتؤكد مقدادي على أنه كان هناك تشجيع على مشاركة النساء من العالم العربي في مجال الفن، ومع ذلك فقد تم قمع قدرتهن على المساهمة بشكل صحيح لأن ذلك تطلب اختلاطهن بالرجال. الأمر الذي أبعدهن عن الأكاديميات والجمعيات والمجموعات الفنيّة التي هيمن عليها الرجال، حتى مع حصول العديد من النساء على منح دراسية حكومية منذ عشرينيات القرن العشرين للدراسة في أوروبا والمملكة المتحدة التي كانت فيها الأكاديميات الفنية تقبل التحاق الرجال والنساء بها على حد سواء.

 

وكما أشارت المقدادي وشبوط، وكما أوضح القاسمي من خلال التدابير التي اتخذها للاحتفاء بعدد أكبر من الفنانات العربيات من القرن الماضي، واللواتي لا تزال أعمالهن غير معروفة بشكلٍ كافٍ، توجد حاجة إلى إبراز الإسهامات الهامة للفنانات العربيات في تشكيل تاريخ الفن العربي في القرن العشرين. بفضل أعمال الفنانات العربيات المعاصرات، يمكننا اكتساب فهم مختلف وجديد لاستكشاف الأساليب الفنية التي كانت تُعد حديثة، مثل التجريدية والتعبيرية والعمل بالوسائط المختلطة. والأهم من ذلك هو أن الأعمال التي قدمتها الفنانات منذ مطلع القرن العشرين توفر رؤى مهمة حول واقع الأحداث السياسية والحياة المنزلية والوضع الاجتماعي المتغير للمرأة.