الغوص في أغوار العمل الفني- هيلين الخال في نقطة السكون من العالم الدوّار
مؤلف
نادين نور الدين
نشرت
31 أكتوبر 2022
يُصوّر هذا العمل غير المُعنون الذي قدّمته الرسّامة هيلين الخال (1923-2009) في عام 1969 مساحات خضراء شكّلتها طبقات متعددة بدرجات باهتة. تفاصيل هذه اللوحة القماشية ذات الحجم المعتدل تكشف عن ضربات فرشاة ثابتة ومحسوبة تصوّر حقول ضبابية يتمدد فيها اللون الأخضر الداكن مُحتلًا أفق اللوحة وعرضها، متقدّمًا نحو المستطيل الدائري أسفل اللوحة في تلاشي يُغيّر الداكن إلى درجات لونيّة أفتح وأكثر إشراقًا، وكأنه رسم لزمرد متوهّج.
اشتهرت الخال بلوحاتها التجريدية التي بدأت ترسمها منذ الستينيات من القرن الماضي وما بعدها. تميزت هذه الأعمال بتركيبات لونيّة متناغمة صنعتها الفنانة باستخدام تنويعات من الأشكال – منها المستطيل والمربع والدائرة أو الأشكال المتعرجة – الموضوعة بصورة أفقية أو رأسية أو قُطرية. كحال العديد من الفنانين اللبنانيين المعاصرين، شعرت الخال بالحرية في التعبير عن فرديتها بغض النظر عن الأذواق الرائجة ، فبالنسبة لها، تُعد الوجدانية التي تحتويها عملية الرسم أكثر أهميّة من النتيجة النهائية. في وصف توظيفها اللون كأداة لصنع "واحة للعواطف" ، تقول الفنانة: "أُركّز على صورة واحدة في معزلها، على قوة اللون العاطفية، ولا ابتغي حتى إظهار ضربات الفرشاة".
هيلين الخال في لبنان، مصدر الصورة: "أخبار العرب"
في حقول التجريدية، بحثت هيلين الخال عن مهلة للسكون، فبعد تجربة طلاق صعبة نتج عنها انفصالها عن أطفالها، ابتعدت الفنانة عن الأسلوب التصويري الذي اعتمدته في أعمالها السابقة، فلجأت إلى التعبيرية في محاولة للتعامل مع مشاعر الفقد العميقة التي أَلَمَّتْ بها. تقول الخال: "اعتمدت تركيبات هندسيّة بشكل عام، مما يعني بوضوح أنني كنت أبحث عن واحة نظام تأنس إليها حياتي".
قدّمت الخال، صانعة اللون الماهرة، تكوينات فنيّة ألوانها نابضة بالحياة، تفيض بالنور؛ وفي مقابلة لها، استشهدت بجزء من قصيدة ت. س. إليوت بعنوان "بيرنت نورتون" (1935)، حيث أحبت الفنانة سطورها، ووجدت أنها أفضل ما يصف دوافع أعمالها الفنيّة :
"في نقطة السكون من العالم الدوّار. لا جسد ولا بغير جسد،
لا من ولا إلي؛ في نقطة السكون، هناك حيث الرقص..."
من خلال التراكيب اللحنيّة التي تميزها كثافة اللون، تُجسّد أعمال الخال سكونًا مؤثرًا، هادئ ومفعم بالحيوية في آن واحد، وتعلّق الفنانة على هذا الأسلوب قائلة: "أحاول أن أجد نقطة السكون تلك التي تتواجد بها كل الحياة وطاقتها، أحاول العثور عليها من خلال اللون" .
على امتداد مسيرتها الفنيّة، تميّزت أعمال الخال باستخدامها لوح ألوان دائم التطور، وتميل الفنانة إلى العودة من حين لآخر إلى تدرجات لونيّة مُحددة، وإعادة صياغة وقعها التعبيري في التراكيب المختلفة؛ وعلى وجه التحديد، تتكرر درجات اللون الأخضر وتبرز في العديد من لوحاتها وأعمالها الفنيّة على الورق، حيث يرسم الأخضر المشاهد البحرية والجبليّة، كما هو الحال في لوحتي "البحر الأخضر" (1970) و"مشهد جبلي" (غير مؤرّخة)، كاشفًا، في هذه الأعمال التأمليّة، عن احتمالات لا نهاية لها "للتجديد" و"مُعينًا" على تجارب الحياة اليوميّة المضنيّة.
وصفت الخال أعمالها الفنيّة بأنها رحلة بحث عن هدوء مُطلق، وقد توصلت إلى فهم للمعنى الحقيقي الكامن في إبداعاتها والمتجسّد في قدرتها على "إيجاد مساحة حضور يُمكن الولوج إليها بصريًا؛ ومن خلال هذا التوظيف لحاسة البصر، يُمكن الاستراحة من الواقع المتناقض في عالم يصعُب فيه إيجاد الصفاء والهدوء".
الغوص في أعماق العمل الفني: الفنانة سعاد العطّار عمل متوازن
تُصوّر اللوحة مشهد لا يُفارق الذاكرة لامرأتين طويلتي القامة بحجاب رأس مُرسل تقفان جنبًا إلى جنب، إحداهما تتشبث بشمعة طويلة وتتعلق الأخرى بذراعها في نسق متوازن. على يسار اللوحة، تحمل المرأة ذات الرداء الأرجواني سلة على ذراعها وعلى كتفها طفل يتكئ بذراعيه ورأسه على رأسها وقد بدى نائمًا، وعلى يمين اللوحة تُحدّق المرأة ذات الرداء الأخضر أمامها بنظرة شاغرة وموحشة وقد أمسكت بشمعة طويلة بين راحتي يديها. تقف أمام المرأتين فتاة صغيرة لها عينان واسعتان وشعر أسود قصير، ردائها منقط يزهو باللون البرتقالي، تُحدّق هي الأخرى في الفضاء أمامها.