قصص

باية التي أعرفها

مؤلف
مجموعة آمال وزياد مكاوي الخاصة
نشرت
1 سبتمبر 2022

بصفتي جزائرية تعتز بهويتها، وكوني ورثت عن أبي شغف بالفنون صاحبني طوال حياتي، كان أمرًا طبيعيًا أن أنشأ على معرفة وحب أعمال باية التي بدت مألوفة كظاهرة طبيعية حيث تزيّنت بها جدران العديد من منازل العائلات الجزائرية من الطبقة البرجوازية والتي اعتدت التردد عليها خلال نشأتي فأنطقت الجدران الصماء حيوية. خلال سنوات شبابي، كانت الجزائر العاصمة مدينة برجوازية ومحافظة جدًا، ولهذا السبب فتنتني الأعمال الفنية الدافئة والزاهية لهذه الفنانة الجديدة التي كانت ترسم وتصنع اللوحات بروح الطفولة.

كانت أعمالها كنسمة هواء منعش وهالة من الضوء والسعادة تبث الحياة في غرف المعيشة بمنازل هذه العائلات التي امتلأت بفيض من لوحات أخرى رسمها فنانون "أكثر جدّية"، مثل نصر الدين دينية (1861- 1929)، ومحمد إسياخم (1928 - 1985)، ومحمد خدة (1928-1985) الذين كانت أعمالهم، من وجهة نظري، قاتمة وحزينة جدًا في بعض الأحيان، إذ كثيرًا ما كانت تُصوّر شخوص نائحة أو مشاهد صلاة يسكنها الهدوء. والحق يقال إنني كنت دائمًا أميل إلى الحس الفني الذي تميّز به محمد خدة، فقد كان أحد أعظم الرسامين والنحاتين والكُتّاب في تاريخ الحداثة في الجزائر. بيد أن أعمال باية كانت مختلفة إذ امتلكت أسلوبًا فنيًا فريدًا وأصيلًا ذي طابع جوهري بسيط تجسّد من خلال استخدام الألوان الأساسية وتصوير الزهور والنساء والطيور في مشاهد مبهجة وغنية.

عرفت الفنانة اليُتم في سن الخامسة واحتضنتها في نهاية الأمر المُفكّرة وجامعة الفنون الفرنسية الجنسية مارغريت كامينا بن حورة والتي كانت بمثابة قوة دافعة ومصدر دعم هام في مستهل حياتها الفنية.

باية فنانة دربت نفسها ذاتيًا حيث بدأت الرسم في عمر مبكر وسرعان ما أصبحت شخصية فذة في المشهد الفني الطليعي الباريسي، حيث أُعجب بها وقام بجمع أعمالها أمثال الكاتب والشاعر أندريه برتون الذي كتب مقدمة عرضها الأول، كما لفتت عبقريتها الإبداعية انتباه الفنان بيكاسو وألهمت سلسلته التي تحمل عنوان "نساء الجزائر". من خلال مارغريت، وجدت أعمال باية الفنية طريقها إلى صاحب المعارض الشهير ايمي مايخت الذي مثّل أساتذة الفن الحديث كما نعرفه اليوم، ومنهم خوان ميرو وهنري ماتيس وألبرتو جياكوميتي وألكسندر كالدر على سبيل المثال لا الحصر.

كانت باية سابقة لعصرها بسنوات ضوئية، فعلى الرغم من أنها عاشت في حقبة الاحتلال الفرنسي للجزائر في الثلاثينيات من القرن المنصرم، إلا أن إبداعاتها كانت حرة غير مُثقلة بعبء التواجد الاستعماري والنظرة الذكورية. جسّدت لوحاتها الهوية الجزائرية في أنقى وأجود صورها، متحررة من قيود التأثير الأوروبي وتعاليم الفن الأكاديمي؛ فكان النتاج الفني راديكالي من نواحٍ كثيرة. شخصياتها النسائية القوية المرسومة ببراءة طفولية والمتداخلة مع جمال الطبيعة تقدم تصورات غنائية وحازمة جدًا للأنوثة والقوة المتأصلة بها.

شعرت بالفخر عندما قرر متحف الشارقة تقديم معرض بأثر رجعي لأعمال الفنانة باية، فقد كانت لحظة فخر لدولة الإمارات. خلال نشأتي كفتاة جزائرية صغيرة، شعرت دائمًا بارتباط مميز بباية وأعمالها الفنية، فلطالما عرفت بأنها فنانة مميزة، وبعد ثلاثين عامًا، أصبح العالم بأسره يشاركني هذا الشعور. باية التي تعد أعمالها بمثابة نافذة على عالمها الخيالي الحافل بالإبداع والفردية هي شخصية جزائرية تربطني بها صلات عميقة.

● القصة التالية

هوغيت كالان

"ركبتاي تؤلماني، إنني أتقدم في السن مثل روسينانتي"