إن بناء مؤسسة جديدة لجمع الأعمال الفنية في بيروت هو حدث بالغ الأهمّية ورمز ليس فقط لصمود المدينة، بل وأيضًا تفاني أهلها في الحفاظ على تراثهم الثقافي والنهوض به. من هذا المنطلق، يجب أن تكون جميع جهودنا انعكاسًا لهذه الأهداف والرسالة وتحقيقًا لها. وبوصفنا مختصين في مجال الفن، تقع على عاتقنا مسؤولية فهم أهميّة هذه المساعي والعمل على تحقيقها، خاصةً في ضوء تدهور المناخ الاجتماعي والاقتصادي في لبنان، إلا أن تحقيق النجاح لن يتطلب جهودنا نحن فقط، بل سيحتاج أيضًا إلى وجود تعاون بين الفنانين ورعاة الفن والتربويين والمؤسسات الثقافية، وأن يعمل جميعهم نحو تحقيق الهدف المشترك المتمثل في الحفاظ على التراث الثقافي اللبناني ورعايته على صعيد الماضي والمستقبل.
أولًا، لتحقيق هذا الهدف، يجب أن نُركّز على إنشاء بيئة جذابة وشاملة ومتاحة للجميع، وهذا يعني الحرص على أن يفتح متحف بيروت للفنون "بيما" أبوابه أمام جميع أفراد المجتمع، وأن يُقدّم برامج وفعاليات تُناسب وتجذب جمهورًا متنوعًا. وإننا مصرون على أن تعكس المؤسسة طبيعة الناس وتفادي ازدواجية الجهود المبذولة. ومن الأساليب المستخدمة في تحقيق ذلك هيكلة المتحف الفعلي باعتباره عقل المؤسسة الذي توظفه في نشر المعرفة وجمع المعلومات. أما أطراف المتحف، المتمثلة في برامجه، فهي تنقل رسائله لتصل بها إلى كل مكان في لبنان وتُشكلها على نحوٍ يُخاطب الجمهور وفقًا لطبيعته. من خلال إضفاء اللامركزية على برامج متحف بيروت للفنون "بيما"، استطعنا حتى الآن الاستجابة من خلال تقديم مبادرة تهم الأفراد في المنطقة، مع تذكيرهم في الوقت ذاته بأن الفن هو في الواقع للجميع.
إننا نطمح أيضًا إلى تحقيق احتياجات الناس. وفي حين أننا كنا نتطلع في الماضي إلى المتاحف لمساعدتنا في تعريف والكشف عن جوهر ثقافتنا وتقاليدنا، فقد توسّع دورها الآن، وأصبح يتعين عليها الاهتمام بقضايا اليوم ومساعدتنا على التفكير فيها أو حلها. وبينما بدت أعظم المؤسسات في الماضي -مثل، متحف متروبوليتان أو اللوفر- ثابتة ومستديمة، تحتاج المؤسسات الجديدة إلى أن تكون مرنة ومتفاعلة، سواء كان فيما يتعلق ببنيتها المادية أو برامجها، كما ينبغي أن يتوقع منها القيام بدرو فعال في تشجيع الفن وتثقيف الجمهور، وكذلك تعزيز التبادل الثقافي بناءً على الأحداث الجارية.
وتحقيقًا لهذه الغاية، قمنا بالفعل بالتواصل مع القطاعين التربوي والثقافي في لبنان لتحديد احتياجاتهما. على سبيل المثال، عندما أُغلقت المدارس العامة في لبنان، أعدنا التفكير في كيفية تنفيذ برنامجنا "المسارات الإبداعية" للوصول إلى الطلبة أثناء بقائهم في المنزل، وقد ساعدنا تأمل تحديات الحياة العملية في وضع برامج هادفة.
اليوم، في السياق الأوسع، نجد أن واقع بناء متحف بيروت للفنون "بيما" في ظل هذا المناخ يُحدد هدفه الحالي حيث أصبح رمزًا للأمل. وللمدينة التي واجهت الكثير من الصعوبات، يمثل المتحف فرصة لشعب لبنان للمشاركة معًا في الاحتفاء بتراثهم الثقافي. وهذا ما يحتاجه لبنان وشعبه الآن: تأكيد على أن قصته لن تُمحى، والتزام بأن تُحكى، ومنارة أمل تلقي بنورها على الساحة العالمية. ليس بوسعنا بعد الآن التركيز بشكل مباشر على مجموعة المقتنيات الفنية، وبدلًا من ذلك، سنُركّز على كيف يُمكن أن تعني هذه المجموعة شيئًا للجمهور.
جسر ثقافي للفنون العالمية
أحد التحديات الأساسية التي تواجه أي مؤسسة في لبنان تتمثل في تحقيق التوازن بين احتياجات الفنانين المحليين والتراث الثقافي من جهة ومتطلبات عالم الفن المعولّم من جهة أخرى، مما يتطلب فهمًا عميقًا للسياق الثقافي الذي تنفرد به المدينة والتزامًا بالترويج لأعمال الفنانين المحليين، مع توفير منصة لهم لعرض إبداعاتهم. سيكون متحف بيروت للفنون "بيما" مُصممًا لدعم الفنانين المحليين، بينما سيمد أيضًا جسر إلى فضاء الفن العالمي.
ذلك الجسر يحتاج إلى عامل تمكيني مهم وهو التقنية. ففي السنوات الأخيرة، غيرت التقنية الطريقة التي نعيش من خلالها تجربة الفن وتفاعلنا معه. ولهذا فإننا نهدف إلى الاستفادة من قوة التقنية في تعزيز تجربة الزوار وتزويد الجمهور بأساليب جديدة ومبتكرة للتفاعل مع مجموعة مقتنيات المتحف. وقد اتخذ متحف بيروت للفنون "بيما" أول خطوة ليصبح مفتوحًا للعالم من خلال رقمنة مقتنياته وسجلاته الفنية. هذه المبادرة، التي نأمل أن يتم إطلاقها بحلول نهاية هذا العام، ستجعل المتحف بطبيعة الحال مفتوحًا للطلبة والباحثين والمؤسسات وهواة الفن. وعلى غرار مبادرة "مقتنيات دبي"، يبقى الأمل معقودًا على أن يمتد الفن بصفته المادية ليغمر ملايين الناس حول العالم.
إن بناء متحف بيروت للفنون "بيما" اليوم هو فرصة تدع المجال لنا لتسليط الضوء على التراث الثقافي اللبناني وضمان الحفاظ عليه في المستقبل. من خلال التعاون في العمل والتركيز على إيجاد بيئة جذابة وشاملة ومتاحة للجميع، تخدم احتياجات الجمهور، سيصبح متحف بيروت للفنون "بيما" مصدر اعتزاز وإلهام لأجيال قادمة من اللبنانيين.
سُئلنا منذ بضعة أشهر في ندوة بمتحف الفن الحديث عن تصورنا لما سيبدو عليه المتحف عند افتتاحه. وأرى أن الإجابة الوحيدة الواضحة عن هذا السؤال هي المرونة، بمعنى بناء هيكل مادي مسامي، قادر من خلال المقتنيات الفنية التي يعرضها على أن يعكس ويحافظ على التغيير واحتياجات العصر المتوقعة أو كما ورد ببلاغة في مقال نشرته جريدة "نيويورك تايمز" عام 2015: "سيحدد ملامحه الدور الذي يضطلع به في تشكيل القيم والجمهور العريض الذي يجذبه".