مع ذلك، من بين الفنانين الذين يعملون في الخليج كان أوغسطين أول فنان فلبيني التقي به خلال فترة عيشي في المنطقة والتي بلغت أربع سنوات في ذلك الوقت. أخذنا نتساءل: أين هم الفنانون الفلبينيون في المشهد الفني هنا؟ وسألته لما هو الفنان الفلبيني الوحيد الذي له معارض وحضور مرئي؟ إذا كانت نسبة سكان دبي من الفلبينيين تبلغ 20%، ألا ينبغي أن تعكس المساحات الفنية وتمثل سكان المدينة؟ إذا كان الأمر كذلك، لماذا لا يمثل الفنانون الفلبينيون 20% من مساحة الفن؟
من هذه المحادثات غير الرسمية التي جرت بين جلسات تصوير الإعلانات التجارية الخاصة به ووظيفتي حينها في مجال الاستشارات الإدارية خرجت المجموعة الفنية "سا تاهانان" التي كانت وليدة رغبتنا في إنشاء منصة فنية شاملة للفنانين الفلبينيين في الخليج، وهي محاولة لتحقيق هذا النوع من الحضور المرئي الذي شعرنا بأنه مفقود.
منذ ذلك الحين، أصبحت هذه المجموعة، من بين أعمال بناء المجتمع الأخرى التي قمنا بها، وسيلة لجمع وأرشفة أعمال الفنانين الفلبينيين الآخرين في الشتات. وشرعنا بتتبع تاريخ الفنانين الفلبينيين في الخليج، وقمنا بتكريم مجموعة أعمال "براون مونكيز" الجماعية التي سبقتنا، وفعاليات "ماكر: الفلبين" التي أقامها معرض آرت دبي في عام 2016، والمعارض الفردية لستيفاني كوميلانغ وباسيتا أباد التي أقامتها منصة 421 ومركز جميل للفنون على التوالي في عام 2021. وأخيرًا، قمنا بإدراج أعمال فنانين فلبينيين، مثل جيمس كلار ونيكول كوسون وكريستوفر أردينا، في مجموعة مبادرة "مقتنيات دبي" التي تم تشكيلها مؤخرًا.
إن لفناني الشتات دورًا هامًا في عكس الفروق الدقيقة التي تنطوي عليها الهوية الفلبينية، فالتجربة الفلبينية في العيش خارج البلاد ليست تجربة موحدة، إذ أن هوية المرء تُشكلها العديد من التأثيرات المختلفة. وبمجرد النظر في أعمال الفنانين الفلبينيين الثلاثة المدرجين في مجموعة "مقتنيات دبي"، نُدرك أنهم يرسخون ممارساتهم في "هويتهم الفلبينية" بطرق متباينة، على الرغم من كونهم جميعًا فنانين يعملون في "الخارج".
تُجسّد أحدث المشاريع الفنية لجيمس كلار مفهوم الـ"باليكبايان" الذي يحمل معنى شخص فلبيني كان بعيدًا وعاد الآن إلى "وطنه". كلار هو فنان فلبيني ولد ونشأ في الولايات المتحدة، أخذته ممارسته المهنية إلى نيويورك وطوكيو ودبي، وقد قرر مؤخرًا نقل الاستوديو الخاص به إلى مانيلا، عاصمة الفلبين، في محاولة لفهم جذوره وهويته الفلبينية. كونه واحد من فناني الوسائط الحديثة، تُركّز أعمال كلار الفنية على الإمكانات النحتية للضوء والتكنولوجيا باعتبارهما وسيط لنقل التجربة الإنسانية. وقد صنعت تجاربه الأخيرة واستكشافاته الفنية التعاونية التي اختبرها أثناء إقامته في مانيلا خط قاطع فتح آفاقًا جديدة لممارسته الفنية متعددة الأبعاد والتي هي غنية بالفعل. تعاون كلار مع صنّاع الـ"بارول" (فانوس عيد الميلاد) المحليين لعمل فانوس ضخم صممه ليكون نظامًا واسع النطاق لمعالجة المعلومات. قام الفنان أيضًا بإنشاء تركيبات نحتية بالتعاون مع أول فلبينية حائزة على الميدالية الذهبية الأولمبية ورافعة الأثقال، هيديلين دياز، حيث استخدم في عمله بيانات الموجات الدماغية الخاصة بها في حالات مختلفة وصفائح عريضة من الألومنيوم المثنية بفعل وزن أثقالها. من خلال تجربة الـ"باليكبايان" التي خاضها، جسّد الفنان ما يختبره العديد منا عند العودة إلى "الوطن" من دائرة معقدة نمر بها للتعرف على أماكن أو أشخاص يفترض منا أن نعرفهم لكننا لا نعرفهم.
غادرت نيكول كوسون الفلبين سعيًا إلى دراسة الفن في الخارج، وقدّمت هذه الفنانة المولودة في مانيلا والمقيمة في لندن مطبوعات صنعتها بأسلوب المونوتايب، والتي سكنت مساحة الوسط: تارة بين الفلبين والأماكن الأخرى، وتارة بين الطبيعي والميكانيكي، وأحيانًا بين المجهول والشخصي. وفي بعض الأحيان، صاغت كوسون أعمالها على هيئة تأملات تعكس توقها إلى الفلبين وأحبائها، مثل عملها الفني بعنوان "فورترس" والذي صنعته خلال فترة تدابير الإغلاق للتصدي لفايروس كوفيد-19. الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو احتواء عملها الفني بعنوان "كاموفلاج" على إيماءات تشير إلى تواجد قوة عسكرية غاشمة وجنود أمريكيين في الفلبين. كُتب في نص معرضها الفني: "لقد حدث ذلك في البلاد عندما اختار الجنود الأمريكيون، الذين أرادوا قمع الثورة الفلبينية المتصاعدة، ارتداء الزي الرسمي باللون الكاكي بدلاً من اللون الأزرق. وفي نهاية المطاف، استخدموا هذا اللون استخدامًا استراتيجيًا جعل منه أداة للتنكر والتخفي وانتشار الدبابات والقنابل خلال زمن الحرب". من خلال الإشارة إلى ذلك، استحضرت أعمال كوسون جماليات تاريخنا كشعوب مُستعمرة، لتمد السرد على مساحات لوحية كبيرة تدعو إلى مزيد من التأمل.
تتجذر الأساليب الفنية الأخيرة للفنان كريستوفر أردينا، التي نشأت في فضاء مدريد بإسبانيا وباكولود بالفلبين، في ممارسات إعادة الاستخدام التكيفية في الفلبين، والجماليات المألوفة في البيوت الفلبينية، وتنطوي على إشارات إلى التأثير المتميز للجو الاستوائي على الأشياء المادية في الفلبين. تتألف سلسلة "جوست" التي أبدعها أردينا من لوحات تجريدية كبيرة الحجم مصنوعة من عدة طبقات من الطلاء المطاطي على لوحات إعلانية قماشية مثل تلك التي يكثر رؤيتها في الشوارع ووسائل النقل العام في الفلبين. يرسم أردينا الأنماط المعروفة المستخدمة في نسيج الـ"retaso basahan"، وهي حصيرة منزلية مصنوعة من بقايا قماش منسوج، ثم يعمد إلى تكسير أجزاء من هذه اللوحات كبيرة الحجم، ليكشف عن نسيج المادة الداخلية وتفاصيلها المرئية. يُشبّه أردينا هذه الشقوق بتشققات الطلاء الموجودة على جدران المنازل في المناطق الاستوائية، حيث تُحوّل الرطوبة الأسطح المطلية الملساء إلى مساحات "متشققة". نظرة واحدة إلى هذه اللوحات بعين فلبينية تُطلق ذاكرة جماعية، إذ لا يخلو أي بيت تقليدي فلبيني من وجود قطعة واحدة على الأقل من نسيج الـ"retaso basahan" على أرضية المنزل.
إذًا، ما الذي يعنيه أن تكون فنانًا فلبينيًا في الشتات؟ حقًا لا توجد إجابة واحدة عن هذا السؤال. سواء كان من خلال العودة إلى الوطن أو التعامل مع حنين حزين أو إعادة النظر في التاريخ الاستعماري أو استكشاف المساحات الجمالية والمادية، فإن الفنانين الفلبينيين في الشتات يسمحون لـ"هويتهم الفلبينية" بالتأثير على أعمالهم بطرق مختلفة. وبقدر تنوّع تجربة الشتات الفلبيني، تتنوع مظاهرها وأساليب تجسدها في حياة وأعمال الفنانين الفلبينيين.
على الرغم من أن العيش في الشتات يعني البحث المستمر عن التجذّر، إلا أنه يمثل أيضًا القبول التدريجي بأن جذورنا ستتشكل في مكان آخر وأن الأماكن والتجارب الأخرى تصيغ مشاهد حياتنا الكاليدوسكوبية. في حين أن تسليط الضوء على كيفية قيام الفنانين الفلبينيين، مثل كلار وكوسون وأردينا، بتجذير أعمالهم في هويتهم الفلبينية هو عنصر هام في فهم تعددية التجربة الفلبينية، فمن العدل أيضًا أن نستنتج أن هؤلاء هم فنانون في الأساس، صادف أنهم فلبينيون، وليسوا فلبينيين تصادف أن يكونوا فنانين. أن نكون فنانين فلبينيين في الشتات يعني أيضًا قبول تعدد هويتنا والاحتفاء بها، وعدم قصر أنفسنا على التعبير عن هويّاتنا الوطنية فقط في مجمل أعمالنا.