قصص

الحقيقة والذاكرة: نقد تحليلي للتقارب بين الذاكرة والحقيقة في سياق أربعة من الفنانين المشمولة أعمالهم في مجموعة "مقتنيات دبي".

مؤلف
آنا سيمان
نشرت
27 مارس 2025

غالبًا ما تُشكّل مشاعر الحنين والصدمة والفقد الذاكرة فتعمد إلى تشويه الماضي أو تُصوّره على أنه مثالي، بينما تقاوم الحقيقة، المُلزمة بسعيها نحو الواقعية، الثقل العاطفي لفعل التذكر. وفي الفضاء الانتقالي الحدّي، حيث تلتقي وتتباعد السرديات الشخصية والتاريخ الجماعي، يستكشف الفنانون الحدود الضبابية بين الحقيقة والذاكرة. ينظر هذا المقال إلى التجسيد الفني لدهاليز الوجود الإنساني بعدسة الأعراف الاجتماعية والتجارب غير الملموسة والتاريخ في سياق الذكريات الفردية والجماعية في أعمال أربعة فنانين من مجموعة "مقتنيات دبي".

  

"تي فور تو، جولد" (1999) هي منحوتة للفنانة منى حاطوم تتألف من زوج من فناجين الشاي ملتحمة عند قاعدتيها ومطلية بالذهب. يُمثل عنوان العمل تورية صوتية لعبارة "شاي لشخصين"، بينما تدعونا القطعة نفسها إلى طرح تساؤلات حول أعراف الطقوس الاجتماعية وديناميكيات الترابط. يوحي فنجان الشاي، هذا الشيء الصغير المألوف، بفكرة الضيافة وحميمية التجارب المشتركة، إلا أن اتصال الفنجانين في هذا العمل قد يبدو اتصالًا قسريًا، وهو ما يلقي بظلاله على هذا اللقاء الذي يبدو في مظهره لقاء اجتماعي دافئ. وهكذا، تُطوّع حاطوم ببراعة قطعة تبدو بريئة وتحولها إلى استعارة قوية لهشاشة العلاقات والتسلسلات الهرمية الاجتماعية والتقاطعات الثقافية.

 

وُلدت منى حاطوم في بيروت لعائلة فلسطينية، وكثيراً ما تتناول أعمالها مواضيع النزوح والهوية والصراع، وهو ما يعكس تجاربها الخاصة بوصفها فلسطينية في المنفى. على الرغم من أن الفنجانين في هذا العمل يبدوان متناغمين، إلا أنهما في الواقع مرتبطان ببعضها البعض بطريقة تنفي وظيفتهما الفردية. وربما تُلمّح الوحدة المفروضة بين فنجاني الشاي إلى التعايش القسري بين الثقافات والشعوب في ظل الأنظمة الاستعمارية أو الإمبريالية. ومن خلال هذه اللفتة البسيطة، تُشكّك حاطوم ببراعة في حقيقة قصص التاريخ وما يختبئ أحيانًا تحت القشرة اللامعة الذهبية لسرديات الماضي.

 

تعنى الفنانة مها ملوح أيضًا بدراسة علاقتنا بالأشياء حيث تتناول أعمالها، التي عادةً ما تُصاغ في سياق موطنها المملكة العربية السعودية، آثار الاستهلاك على المجتمع وتبعياته التحويلية. يتألف عملها الفني بعنوان "كشف النقاب" (2010) من صورة ضوئية لأدوات طهي من مجموعة ألعاب الأطفال، والتي قامت الفنانة بعكس ألوانها بتقنية فنية اعتمدت على استخدام صندوق ضوئي على ورق حساس للضوء. توظف ملوح في أعمالها الفنية أدوات منزلية باستمرار في معالجة القضايا الجنسانية ودور المرأة في مجتمعها. في هذا العمل، تُجسد الأدوات الصغيرة، المُحمّلة بالمشاعر، والتي تُستخدم ثم تُرمى مع انقضاء الطفولة، إلى الحنين للماضي، وربما تُسلط الضوء أيضًا على الدور المُهمَل للأمومة أو بناء الأسرة. في الوقت ذاته، يتميز العمل بطابع مرح، حيث تُمثل هذه الأدوات سجلاً لما كان، ولكنها في الوقت ذاته، تجذب انتباه المُشاهد نظرًا لغرابتها، فتتيح لذكرياته أن تتدفق لتؤثر على قراءته للعمل والتفاعل مع فكرة زوال هذه الأدوات المألوفة وديمومتها.

 

تُشكّل فكرة الزوال جوهر الأسلوب الفني لمحمد كاظم، أحد أبرز الفنانين المعاصرين في الإمارات. غالبًا ما تتفاعل أعمال محمد كاظم مع الضوء والصوت والحركة، وهي عناصر غير ملموسة تقاوم الديمومة، لتستكشف بذلك كيفية إدراك لحظات الحياة والحفاظ عليها وتحولها حتمًا بمرور الوقت. ومن خلال التركيز على الجوانب العابرة والمُتجاهلة من الحياة اليومية، يلفت كاظم الانتباه إلى هشاشة الذاكرة والطبيعة الذاتية لعملية التذكر. وعلى الرغم من تنوع أساليبه الفنية، التي تشمل الرسم والتصوير الفوتوغرافي والتراكيب الفنية المحددة بالموقع، إلا أن أعماله تركز بشكل عام على الرغبة في رسم المساحة والزمان بأساليب غير تقليدية. وتُعد سلسلة الأعمال المستمرة التي تحمل عنوان "قبلات" مثالًا بارزًا على ذلك، حيث تتألف من مجموعة من الصور الفوتوغرافية لبقع العلكة المُلقاة على الأرصفة، والتي ربط بينها الفنان من خلال رسم خط بالطباشير الملون، وكأنها قبلات بين شخصين غريبين في لحظة تواصل. تتسم هذه الأعمال الدقيقة والجديرة بالاهتمام بطابع مرح وعميق في آن واحد. وعلى نحوٍ مماثل، تُجسد أعماله التي تُظهر علامات خدش على الورق في محاكاة للصوت أو مقطوعة موسيقية تكشف عن شغفه باستحضار الأسلوب الفني من رحم اللحظات العابرة في الحياة اليومية.

 

يستخدم هؤلاء الفنانون الثلاثة موادًا متوفرة أمامنا، لكننا غالبًا ما نغفل عنها، وذلك بهدف استكشاف كيفية تشكيل الذاكرة فهمنا لمكانتنا في العالم. هناك شيء جدير بالاهتمام في إجراء مقارنة بين هذه الأعمال ولوحات مروان السحمراني التعبيرية والتجريدية. يُقدم السحمراني لوحات ديناميكية معبرة تتميز بضربات فرشاة إيمائية وتكوينات لونية زاهية، تتعمق في الجوانب الحسية والعاطفية للذاكرة. وكثيرًا ما تستكشف أعماله ذات الطابع الحاد مواضيع الحرب والنزوح وفوضى الحالة الإنسانية، مما يعكس تجاربه كفنان لبناني. وعلى الرغم من أن أسلوب السحمراني لا يبدو كخيار واضح وبديهي للمقارنة مع الأساليب الفنية الأكثر دقةً وتفصيلًا التي يتبعها الفنانون المذكورون في هذا المقال، إلا أنه يجدر بنا هنا لفت النظر إلى نهجه في التعامل مع التاريخ والذي يقوم على تجريد الشخصيات من أماكنها وأزمنتها المحددة، وإخفاء هوياتها الفردية تحت وطأة المشاعر في صيغتها الأصلية. بالنسبة للسحمراني، تُمثل الذاكرة ساحة صراع، بينما تشوب الحقيقة الاضطراب والتوتر المشحون. ومن ناحية، تعمل لوحاته على التفكيك، بينما ينشغل فنان مثل كاظم بالبناء والإنشاء. كذلك تتسم لوحات السحمراني بالقوة والجرأة، بينما يطغى الهدوء في أعمال مها ملوح ومنى حاطوم، إلا أنهم جميعًا يستخدمون الذاكرة لاستكشاف الطبيعة المتغيرة للتجربة الإنسانية. فبينما تتداخل أقداح حاطوم في عملها "تي فور تو" وتتصل بقع العلكة التي صورها كاظم في سلسلته بعنوان "قبلات" على نحوٍ يزيل الفردية عن هذه العناصر، تتساءل لوحات السحمراني عن تعقيدات التعايش. تستخدم حاطوم وملوح أدوات الطهي البسيطة، بينما يوظّف كاظم والسحمراني حركات إيمائية، لكن جميعهم يقدمون أعمالاً تُذكّر بأن ما يبدو جميلاً أو متناغماً ظاهرياً قد يخفي تناقضات وصراعات أعمق.

 

باستحضار الذاكرة والطبيعة غير الملموسة للحقيقة والواقع، يُقدم هؤلاء الفنانون أعمالًا فنيةً تأملية تتألف من طبقات عميقة، تحث على التفكير وتعكس تعقيدات الحياة البشرية، وتدعو الجمهور للتفاعل مع أسئلة وجودية غالبًا ما تبقى عالقة. في عالمنا اليوم، حيث الواقع لا يُفهم من منظور واحد، بل يُنقح عبر تصورات فردية تُشكّلها الثقافة والذاكرة والعاطفة، نعتمد على الفنانين في تقديم أعمال تُشكّك في الروايات الراسخة، وتكشف التحيزات، وتدعونا لإعادة النظر في افتراضاتنا حول الحقيقة.