قصص

دبي حاضنة المقتنيات الفنية: نظرة على العقدين الأخيرين

نشرت
1 نوفمبر 2021

نجحت دبي في أن تغدو عاصمة للفن المعاصر وأيقونة تحتضن شتى أنواع الفنون وملاذًا ملهمًا للفنانين وعشاق الفنون من شتى بقاع الأرض وأرضية ثقافية وفنية مهمة، من خلال إنشائها للمشروعات الهادفة للربح على مدى العقدين الأخيرين، مواكبةً لاتجاهات القطاعات الثقافية والفنية حول العالم لولوج عالم التجارة. ما جعل السوق الإماراتية سوقًا فنية مهمة، تستقطب كبار المهتمين والباحثين في عالم الفن. وأسهمت صالات المزادات العالمية ومؤسسات الفنون إسهامًا كبيرًا في تحقيق هذه الإنجازات المبهرة، ولا سيما صالة كريستيز للمزادات التي تصدرت المشهد جنبًا إلى جنب مع مهرجان آرت دبي. ومع توسيع نطاق الأنشطة والمجالات الفنية الحالية أو "تصدير" النماذج الفنية التجارية المعروفة التي وُلدت في العواصم الثقافية الغربية، وجدت هذه المنظمات في دبي أرضًا خصبة لتحدي الأطر والقوالب القائمة لتقديم الفنون غير الغربية، مما أدى في النهاية إلى تغيير مفهوم ما يعنيه الفن بكونه "عالمي.

وقد انتعش قطاع الفن في المنطقة ككل لعدة عقود، حيث كانت تُقام العديد من المعارض الفنية في بيروت ودمشق وإسطنبول وطهران وشهدت فترة الستينيات على اشتهار هذه المعارض حول العالم. وبسبب عدم استقرار الأوضاع السياسية وعدم فعالية البنى التحتية للنقل أو توفر المزيج المطلوب من الحوافز المادية لتوجيه الثروة المحلية إلى سوق الفن مفقودة بشكل عام، أو على الأقل في فترات متقطعة. ومع ذلك، فقد واجهت بعض العواصم الإقليمية الأخرى عددًا من القيود المرتبطة غالبًا بعدم الاستقرار الجغرافي السياسي، مما حد من قدرتها على بناء سوق كبيرة بما يكفي لاستقطاب مجموعة دولية من هواة الجمع ورعاة الفن والابتكار. على عكس مدينة دبي التي تضافرت فيها هذه العوامل الثلاثة مصادفةً في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مما جعل المنظمات التجارية (المحلية والدولية) تولِّي وجهها شطر الشرق العربي لاغتنام فرصة بناء "مركزٍ جديدٍ" للفن المعاصر من شأنه أن يدعم ما رأوه في الشرق الأوسط من سوق إقليمية واعدة وجديدة، والتي لم يكن لها في تلك اللحظة مكان واضح في المنطقة بحد ذاتها.

 كان المشهد الفني في دبي حديث العهد، قبل وصول صالات المزادات الدولية والتجار الجدد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت أول صالة عرض للفنون احتفت بها دبي هي "صالة مجلس" في عام 1979 والتي نظمتها أليسون كولينز لأول مرة في البلاد، وقد تلاها معرض "غرين آرت" الذي بدأ عمله في جميرا في عام 1995، وتلاهما معرض "إكس في إيه غاليري" الذي افتتح أبوابه في حي البستكية التاريخي في عام 2003. ولا يزال الأخيران مفتوحين ويعملان حتى يومنا هذا. وجاءت لحظة التحول  في تطور المشهد الفني في المدينة عند افتتاح صالة كريستيز للمزادات في مركز دبي المالي العالمي في عام 2006، وقد فاقت النتائج التي حققها المزاد جميع التوقعات بأرباح وصلت إلى 8.5 ملايين دولار أمريكي، وتم فيه بيع 63 قطعة، معظمها لفنانين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (من جنوب آسيا في المقام الأول إلى جانب مجموعة مختارة قليلة من الأعمال الفنية الأمريكية). وحقق أول عمل تم بيعه الفنان العراقي شاكر حسن السعيد (1925 – 2004) "الفلاح" (الشكل 1)  31.200 دولار أمريكي، أي ثلاثة أضعاف ما كان متوقعًا.

 حقق مزاد كريستيز الذي انعقد للمرة الأولى في الشرق الأوسط في دبي، نجاحًا كبيرًا شجع فنانين جددًا على دخول المسابقة والمشاركة بأعمالهم الفنية، وعندها بدأ مشهد المعارض الفنية يتنامى. فأعقب هذا النجاح، قيام معرض  (جلف آرت فير) الأول في مارس 2007 (والذي يُعرف حاليًا بمعرض "دبي آرت") ولا يزال حتى يومنا هذا أهم مبادرة فنية تجارية أُقيمت في المنطقة. لم يكن معرض آرت دبي يتسم بالابتكار في كونه الحدث الأول من نوعه في المنطقة فقط، بل كان من المقرر أن يصبح أهم محفز للنمو في القطاع الثقافي الأعم في المدينة، بحيث يتجاوز الأنشطة التجارية ويصبح مؤسسة مختلطة تقدم خدمات تجارية وغير تجارية على حد سواء – تلك الخدمات التي تكمل أو تحل محل الدور التقليدي الذي تلعبه المتاحف والمعارض العامة في بعض الحالات. بالإضافة إلى "منتدى الفن العالمي" الذي يمثل واحدة من منصات البرمجة الرئيسية للمعرض - المصممة للجمع بين الفنانين والمهنيين وجامعي التحف معًا، وهي سلسلة من المحادثات التي تُجرى كل عام بالتوازي مع المعرض، وقد جذب هذا المنتدى خلال دوراته الثلاث الأولى أكثر من 80 فنانًا من فناني الثقافة الشعبية إلى الأوساط الأكاديمية، ووصل هذا الرقم الآن إلى حوالي 500 فنان.

 في الأيام الأولى لمعرض دبي آرت، لم تلقَ فكرة وجود "مركز" موحد لقطاع الفن في الشرق الأوسط ترحيبًا على الإطلاق في عالم الفن العالمي. إذ كانت تُقابل مجرد فكرة أن معرضًا فنيًا يمكن أن ينجح خارج الدائرة التقليدية للعواصم الأوروبية والأمريكية بشيء من الشك. ورغم أن هذا التصور كان سائدًا خارج المنطقة، إلا أن العديد من المبادرات التي تركز على الفن الحديث والمعاصر من الشرق الأوسط كانت راسخة بالفعل في العواصم الغربية، إذ استقبل معرض "غراي" للفنون في نيويورك، على مر السنين، مجموعة كبيرة منتقاة من الأعمال الفنية الحديثة في منطقة آسيا والشرق الأوسط، في وقت مبكر كعام 1974. كما بدأت المؤسسات العامة في جمع وإدارة برامج منتظمة تركز على الفن الحديث والمعاصر في الشرق الأوسط، بزخم أكبر منذ بداية القرن. ومن أمثلة ذلك متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون ومتحف الفن الحديث في الولايات المتحدة ومركز بومبيدو ومعهد العالم العربي في فرنسا ومركز باربيكان والمتحف البريطاني وتيت مودرن ومتحف فيكتوريا وألبرت في المملكة المتحدة. كما بدأ المتحف البريطاني، على سبيل المثال، عرض مجموعة من الأعمال المعاصرة من المنطقة بالفعل في الثمانينيات، مع افتتاح أول معرض كبير للمجموعة وهو معرض "كلمات في الفن" في المتحف البريطاني في عام 2006 والذي سافر إلى دبي في عام 2008. وقد أرسل العديد من هذه المؤسسات أفرادًا لحضور آرت دبي، الذي وفر فرصًا جديدة للتواصل بين المتخصصين في الفن في العواصم الثقافية الغربية وقطاع فني محلي يسكنه أصوات إبداعية نادرًا ما كان يُذاع صيتها خارج المنطقة حتى ذلك الحين. كما كان هناك اعتراف واضح بضرورة توسيع المؤسسات الثقافية الغربية لمجموعاتها وبرامجها، لذلك سعت دبي لتضع نفسها في المكانة التي تجذب المجتمعات الفنية الغربية والشرق أوسطية. الأمر الذي جعل الفنانين والمحترفين وجامعي التحف أيضًا يولُّون وجهاتهم شطر الشرق الأوسط ويدركون فوائد وجود مكان اجتماع واحد حيث تتقارب فيه المشاهد الفنية المختلفة من المنطقة، لسهولة السفر إليه ونظام التأشيرات المرن. 

 وعلى مدار الأعوام الخمسة عشرة الماضية، رسخت دبي مكانتها كمركز فني رئيسي لاستكشاف الفنون الجديدة واستقطاب المواهب الإبداعية الجديدة؛ إذ مهد نجاح المزادات والمعارض الموسمية الطريق لإنشاء المزيد من المبادرات والمجالات الدائمة التي تستهدف الأعمال الفنية المعاصرة، مثل تأسيس منطقة السركال أفينيو. وقد فتح الوجود المتزايد لهواة جمع التحف من القطاع الخاص والمؤسسات في المدينة أي2018 ومركز جميل للفنون في عام  2008 أفينيو في عام ضًا نقاشًا مهمًا بشأن الحاجة إلى مجموعة عامة، لم يكن موجودًا من قبل. وقدتجاوبت "مقتنيات دبي" مع هذه الحاجة من خلال توفير نموذج جديد للشراكة بين القطاعين العام والخاص يستفيد من المجموعات الخاصة ودعم الر عاة من الأفراد والشركات، لبناء أرشيف رقمي متاح للجميع وتدشين معارض مؤقتة - مادية - جديدة. ويعتبر هذا النموذج أحدث تعبير عن العلاقة الدينامية التي تجمع بين القطاعين العام والخاص وهي علاقة فريدة برزت في دبي التي تتحدى ديناميات قطاع الفن التقليدي مرة أخرى. وتجسد مجموعة "مقتنيات دبي" الجهود الجماعية التي تهدف إلى توسيع إمكانية وصول الجمهور إلى الفن وخلق فرص جديدة للفنانين والمحترفين في دبي وخارجها، في بيئة اقتصادية لا تخصص إلا جزءًا صغيرًا من الأموال العامة للجوانب الفنية والثقافية. 

● القصة التالية

نبذة عن مقتنيات دبي

على الرغم من عدم وجود متاحف مخصصة للفن المعاصر في عدد من الدول مثل "دبي" إلا أن هذا النوع من الفنون يظهر بشكل ملفت في منازل المثقفين واستوديوهات الفنانين وأرشيفات المعارض الفنية التي أصبحت تعتبر بمثابة منصة تتيح للمبدعين خلق آفاق فنية جديدة. ولم تخط دبي أولى خطواتها تجاه الطفرة الفنية الحالية إلا بفضل المبادرات الفردية التي تبناها عشاق الفن والإبداع، ليتبع بعد ذلك كلا القطاعين، الخاص والعام، هذا النهج المتميز والحافل بالمبادرات الفنية الرائدة التي ساهمت في بناء بنية دبي الفنية الفريدة والمبتكرة، وعلى الرغم من تصدر "مقتنيات دبي" لرأس هذه المبادرات العظيمة، إلا أن حصر اسم المبادرة في “دبي" فقط لا يعكس عمقها وأصالتها، حيث تجمع المبادرة تحت مظلتها عبق وأصالة الفن على مدار مختلف العقود والحضارات ليس فقط قصة مجموعة أو مدينة واحدة. وتعتبر "مقتنيات دبي" بمثابة محطة تجمع في ثناياها عبق وأصالة الفنون المختلفة وتقدم دبي للعالم كوجهة رائدة للفنون.